يواجهنا في عالم المقاومة وحركات التحرر الوطني في العالم نموذجان:

الأول: هو نموذج المناضل أو المجاهد الوطني أو المحلي National، من أمثال "المهدي بن بركة في المغرب – هواري بومدين في الجزائر – مادورو في فنزويلا – أيفو موراليس في بوليفيا – لولا دا سيلفا في البرازيل – كوامي نكروما في غانا – عمر المختار في ليبيا – باتريس لومومبا في الكونغو – جوليوس نيريري في تنزانيا - عماد مغنية في لبنان - وآخرين في أميركا اللاتينية.. وهكذا).

الثاني: هو ما يمكن أن نطلق عليه المناضل أو المجاهد الإستراتيجي، ونستطيع أن نقول إنه يتجسد في شخصيات من قبيل "تشي غيفارا – جمال عبد الناصر – هوغو شافيز – السيد حسن نصر الله – الحاج قاسم سليماني – فيدل كاسترو – الإمام الخميني – السيد علي خامنئي – نيلسون مانديلا".

فما المقصود بالمناضل أو المجاهد الإستراتيجي؟
مفهوم النموذج الإستراتيجي للمقاوم

بقدر ما يحفل العالم وشعوبه بنماذج للمقاومة والنضال من أجل التحرر من الاستعمار وعملائه، بقدر ما يتميز النموذج الإستراتيجي للمقاوم بأربع خصائص وسمات هي:

1-امتلاكه منظومة فكرية وعقائدية تحكم سلوكه وتوجّه تصرفاته.

2-امتلاكه رؤية شاملة وواضحة لطبيعة الصراع ضد قوى الاستعمار والعدوان والشر.

3-رؤيته تشتمل ليس فقط على أدوات الصراع وطبيعته مع العدو التاريخي، وإنما، وهذا هو الأهم، امتلاكه رؤية من أجل إعادة بناء العالم أو الإقليم الذي ينتمي إليه.

4-تمتزج رؤيته الفكرية والعقائدية بتجربة نضالية وجهادية ميدانية ومباشرة، بمعنى آخر، نحن لسنا أمام منظر ثوري مكتبي وإنما مناضل ميداني ذو بصيرة ورؤية إستراتيجية.

أي أن لدينا نموذجين أو مستويين للكفاح والنضال التحرري هما:

الأول: قادة التحرر الوطني المحليون بالمعنى التكتيكي للكلمة من حيث المكان والزمان، ويشمل كما أشرنا معظم قادة التحرر الوطني الذين شهدتهم مرحلتي الخمسينيات والستينيات للتحرر من استعمار الغرب لبلدانهم.

الثاني: قادة التحرر الإستراتيجي من حيث تجاوز المكان الجيو- سياسي وامتداد أفق الزمان.

بتطبيق هذه السمات والخصائص والمعايير الأربعة – فوق القومية أو الوطنية بالمعنى المحلي أو الشوفيني –على الحاج قاسم سليماني نجد الآتي:
السمات المميزة لنموذج الحاج قاسم سليماني

بالإضافة إلى السمات والخصائص الأربع التي أشرنا إليها من قبل حول القائد الإستراتيجي، فإن مسيرة الحاج قاسم سليماني تميزت بالآتي:

2-أنه قد انتقل من مجرد كونه جنرالاً لامعاً في المؤسسة العسكرية الرسمية الإيرانية (بقيادته لفيلق القدس) إلى قائد في أكثر من مسرح عمليات (حرج وخطر) خارج إيران، سواء في لبنان، أو سوريا، أو العراق، أو اليمن، وامتد إلى مساندة فنزويلا، وربما مسارح عمليات أخرى لم نعرفها بعد، تماماً كما كان تشي غيفارا.

3-أن مسارح العمليات هذه كانت على وشك انهيار دولها وحكوماتها، وتفكك كياناتها الجيو – سياسية، فكانت مساهمته إنقاذية وفعالة وناجحة من دون ادعاء أو "مظهرية".

4-أن العدو في هذه المسارح كلها كان تقريباً واحداً هو: الإمبريالية الأميركية، والإمبريالية البريطانية والفرنسية وتحالفاتها الأوروبية والرجعيات العربية وأدواتها التكفيرية، وكذلك الرجعيات في أميركا اللاتينية، وبالقطع بمشاركة "إسرائيل" المباشرة وغير المباشرة.

5-جمع الفريق قاسم سليماني بين وضوح وامتلاك الرؤية السياسية والإستراتيجية والقيادة الميدانية، وكان همه بناء قواعد مستقرة وتشكيلات مسلحة للمقاومة والثورة في أكثر من بلد وأكثر من مسرح عمليات.
تأثير نضال السيد حسن نصر الله والحاج قاسم سليماني في عملية الفرز التاريخي الراهن في المنطقة العربية

بفعل النجاحات التي تحققت في أكثر من ساحة، وهزيمة "إسرائيل" مرتين في المسرح اللبناني، والأميركي في العراق، والرجعيات العربية المدعومة في سوريا، تحركت كل شياطين الأرض لمواجهة هذا التغير الإستراتيجي الهائل في المنطقة، وشهدت المنطقة العربية والإسلامية زلازل سياسية، وبراكين اجتماعية وثقافية، وسيولة خطرة، فشهدت المنطقة تحركات غير مسبوقة، أدت إلى فرز تاريخي علني غير مسبوق، من حيث:

1- على مستوى الحكومات والأنظمة الرجعية، بالتحالف المكشوف مع العدو التاريخي للأمة "إسرائيل"، فيما سمّي موجة الاستسلام (التطبيع) شبه الجماعي، صحيح أنها بدأت مبكرة مع أنور السادات في مصر عام 1977، واستمرت بعده حتى اليوم، ثم منظمة التحرير الفلسطينية في أوسلو عام 1993 فكشفت ظهر القضية الفلسطينية وكانت مدخلاً خطراً لما بعدها، ثم ملك الأردن في وادي عربه عام 1994، لكنها توقفت لفترة، وظلت العلاقات سرية حتى بدأت الموجه الجديدة في البحرين والإمارات، والسودان والمغرب، ومتوقع سلطنة عمان ومملكة آل سعود.

2-على مستوى الحركات والمنظمات السياسية، وأخطر ما كشفته وعرّته هو منظمة "الإخوان المسلمين" في مصر، والمغرب، وتونس، واليمن، وليبيا والبحرين، فأسقطت أي أوهام بشأن ما يسمّى التيار الإسلامي (الإخواني والسلفي)، وباستثناء رافد الإخوان المكتوي بالنار في فلسطين -والذي أتمنى أن يتحرر من هذه العباءة ليسترد حقيقته كحركة تحرر وطني فلسطيني -فإن السقوط كان مروعاً وصادماً.

3-بالقدر نفسه سقطت رموز بعض النخب والمنظمات والأحزاب الليبرالية واليسارية في وحل إما القبول بالصمت، أو القبول بالعطايا من الأنظمة الخليجية والأنظمة ذات العلاقة المباشرة مع "إسرائيل" (مصر، الأردن، السلطة الفلسطينية، البحرين، الإمارات، السعودية).

4- أما النخب الثقافية والإعلامية، فبالرغم من محاولات الاختراق المتعدد المستويات الذي بدأ منذ زيارة السادات المشؤومة للقدس المحتلة في تشرين الثاني/نوفمبر عام 1977، وتوقيعه اتفاقية "السلام" مع الكيان الإسرائيلي عام 1979، وما جاء بعدها من اتفاقيات "أوسلو" عام 1993، واتفاقية وادي عربة مع الأردن عام 1994، فإن النخب الفكرية والثقافية والإعلامية المصرية والعربية ظلت متماسكة في معاداتها لهذا الكيان، ودعمها المطلق للقضية الفلسطينية.

5-ولعلّ أخطر المنحنيات والانحرافات التي كان لها تأثير خطير وضار في تماسك بعض النخب العربية والإسلامية في معاداتها لـ"إسرائيل"، كان خط التعاون والتنسيق الأمني والسياسي بين السلطة الفلسطينية، بقيادة محمود عباس، والكيان الإسرائيلي والدعوة الخطيرة والخبيثة التي رفعتها هذه السلطة الفلسطينية لتشجيع بعض النخب على التطبيع والاستسلام للوجود الصهيوني تحت شعار (إن زيارة السجين لا تعني التطبيع مع السجان)، فكان بمنزلة الفخ الذي أوقع البعض منهم في حبائل التعامل، ومن بعدها التعاون مع الاحتلال الصهيوني لفلسطين.

6-كما جاء الغزو والاحتلال الأنغلو – أميركي للعراق، بنخب عراقية مخترق معظمها لا ترى في التعاون مع المحتل غضاضة، وكان ذلك بمنزلة أكبر اختراق نعاني منه حتى اليوم.

7-على مستوى الشعوب العربية والإسلامية، وبالرغم من الضغوط الهائلة، الأمنية والإعلامية والسياسية، التي تتعرض لها هذه الشعوب من أنظمة الحكم العميلة والمتعاونة مع الكيان الصهيوني، بالقبول بتلك السياسات، أو بالصمت عنها، فما زال بركان الغضب يعتمل داخل النفوس، وما زال ينتظر لحظة الفوران والثورة.

المصدر: عبد الخالق فاروق - الميادين