هناك معضلة رئيسية غالبا ما تظهر حين تقرر دولة أو جهة ما شن هجوم بالصواريخ أو الطائرات المسيرة ضد خصم يبعد عنها مسافة كبيرة، وهذه المعضلة تتعلق بالمسافة، حيث يكون على هذه الأسلحة أن تسبح لوقت طويل في الجو قبل أن تصل إلى هدفها، ما يزيد من فرصة اعتراضها، وهو ما يجعل الهجوم في النهاية أقل فعالية وتأثيرا.
إذا أخذنا إيران وإسرائيل مثالا، بالنظر إلى الهجوم الذي شنته طهران على تل أبيب ليل الثالث عشر من إبريل/نيسان 2024، الذي وُصف بأنه أكبر هجوم بالمسيرات في تاريخ الحروب حتى الآن، تتكشف هذه المعضلة بوضوح.
حيث تبلغ أقصر مسافة من طهران إلى تل أبيب نحو 1000 كيلومتر (نحو 620 ميلا)، وهي مسافة تقطعها الصواريخ الباليستية في قرابة 12 دقيقة، في حين تستغرق صواريخ الكروز ما بين ساعة وساعتين، لكن المسيرات، التي يمكن أن تضرب أهدافها بدقة شديدة، قد تحتاج إلى أكثر من 9 ساعات للوصول إلى أهدافها، مما يعزز من فرص اعتراضها، خاصة مع المساعدة التي تحصل عليها إسرائيل من الولايات المتحدة ودول أوروبية وإقليمية.
لكن إيران وجدت حلًا ما! فقد نشرت وسائل الإعلام الإيرانية أول لقطات واضحة لحاملة المسيرات الأولى في البلاد، والتي سميت الشهيد باقري.
كشفت اللقطات، التي تناولتها بعض الصحف الغربية بقلق، عن تطورات واضحة في السفينة التي يبلغ طولها حوالي 240 مترا، حيث أضيف لها سطح مائل للطيران بالمقدمة، مع علامات للمساعدة في توجيه الطائرات الهابطة والصاعدة.
ويبدو أن الحرس الثوري الإيراني، المسؤول عن هذا المشروع، يريد أن يشغل الحاملة بسرعة وبأقل تكلفة ممكنة، فتقرر ألا يتم بناؤها من الصفر. إذ كانت سفينة "الشهيد باقري" في الأصل سفينة تجارية حاملة للحاويات، ثم استُغلت ضخامتها ومساحة سطحها الواسعة وعدّلت على مدى عدة سنوات لتخدم الأغراض العسكرية.
وأطلق الحرس الثوري الإيراني اسم "الشهيد باقري" على حاملة المسيرات نسبة إلى حسن باقري، وهو أحد رموز الثورة في إيران، الذي رغم مقتله في سن مبكرة عام 1983 خلال الحرب العراقية الإيرانية، فإن المرشد الأعلى لإيران علي خامنئي لا يزال يعدّه "معجزة الثورة الإيرانية" من حيث قدراته العسكرية والاستخباراتية.
في هذا السياق، تكون السفينة مصممة للعمل كمنصة متحركة تعمل في المقام الأول لتشغيل المسيرات، كمركز قيادة وتحكم، ومنصة إطلاق وموقع استرداد. من المرجح كذلك أن تكون السفن من هذا النوع مجهزة بتقنيات استطلاع ورصد، ومؤهلة لمعارك الغواصات، بالإضافة لمرافق الصيانة والتحكم في أساطيل من المسيرات.
أما أنواع المسيرات التي يمكن أن تعمل على السفينة الإيرانية الجديدة فلا تزال غير محددة، ولكن المدرّج المنحني مخصص بوضوح للأنواع ذات الأجنحة الثابتة، والتي تنطلق بطريقة "التزحلق والقفز"، حيث تكون نهاية مدرج الطيران القصير مائلة إلى الأعلى مما يعطي الطائرة دفعة في الارتفاع ويسمح لها بالإقلاع، حتى لو لم تصل إلى سرعتها الكاملة في الطيران.
وإلى جانب ذلك يمكن للسفينة حمل مسيرات أخرى متوسطة الارتفاع وطويلة الأمد، مثل مهاجر-6 وفطرس وكمان-12، كما يمكنها حمل مسيرات "صاعقة" الأقل قابلية للملاحظة، أو مسيرات شاهد-136 الانتحارية.
ومن المتوقع أيضا تحويل سفينة حاويات ثانية إلى منصة تشغيل مسيرات، ستسمى "الشهيد مهدوي". ففي مايو/أيار 2023، قال قائد البحرية بالحرس الثوري الإسلامي الإيراني العميد علي رضا تانجسيري إن إيران تخطط لبناء حاملة طائرات فريدة "ستتمتع بالقدرة على حمل عدد كبير من قاذفات الصواريخ".
وفي حديث سابق أوضح تانجسيري أن سفينة "الشهيد مهدوي" تحديدا ستزود بأربعة صواريخ بمدى 750 و300 كيلومتر وثلاث طائرات مروحية، وأن "الشهيد باقري" ستحمل 30 قارب دورية سريعا من فئة "عاشوراء".
وإن كانت تلك هي المرة الأولى التي تصنع فيها حاملة مخصصة للمسيرات، إلا أن هذه ليست المرة الأولى التي تعيد فيها إيران استخدام السفن التجارية التي كانت خارج الخدمة وتحوّلها إلى سفن عسكرية بحرية يمكنها حمل مسيرات قتالية.
ففي عام 2020، حولت قوات الحرس الثوري الإيراني سفينة تجارية إلى سفينة حربية متعددة الأدوار لأغراض الاستطلاع والقتال واللوجستيات، مع مدى تشغيلي محتمل يصل إلى البحر الأحمر، وأطلقت عليها اسم "الشهيد رودكي".
أمكن لهذه السفينة حمل طائرات مروحية ومسيرات وزوارق صغيرة الحجم سريعة مسلحة، تستخدمها قوات الحرس الثوري لأغراض المراقبة في الخليج العربي باستمرار.
وفي عام 2021، حولت قوات الحرس الثوري الإيراني ناقلة نفط سفينة "مكران" إلى حاملة مسيرات قتالية سافرت لمدة أربعة أشهر في المحيط الأطلسي وبحر البلطيق، حيث مثلت إيران في عرض بحري روسي إلى جانب الفرقاطة "سهند". وتم رصدها في ديسمبر/كانون الأول 2022 وهي تعبر المحيط الهادئ.
تتمكن المسيرات من أداء مهام المراقبة وجمع المعلومات الاستخبارية عن تحركات القوات والبنية التحتية والأهداف المحتملة في الوقت الحقيقي، كما يمكنها أن تحمل صواريخ أو قنابل لاستهداف أفراد العدو أو أصوله ذات القيمة العالية، وفي مستوى متقدم (وبقيمة سعرية تنافسية) يمكنها توجيه ضربات جوية دقيقة جدا.
وبوجود حاملة مسيرات، فإن ذلك يمكن أن يوفر للإيرانيين توسيعا للنطاق التشغيلي لمسيراتهم بشكل كبير بحيث يتخطى الحاجز الجغرافي للدولة وصولا إلى بحار وربما محيطات بعيدة عنها، مما يسمح بتغطية مناطق كبرى بالمراقبة والاستطلاع ومهام القتال دون الحاجة إلى أن تكون حاملة المسيرات نفسها قريبة من ساحة المعركة.
ومن خلال نشر المسيرات بشكل مستمر، يمكن للحاملة الحفاظ على تغطية مستمرة لمنطقة مستهدفة، مما يوفر مراقبة مستمرة والقدرة على الاستجابة بسرعة للتهديدات الناشئة، وبسبب قرب المسافة يمكن نشر المسيرات واستعادتها بسرعة، الأمر الذي يسمح باستجابات سريعة ومرنة لظروف ساحة المعركة المتغيرة.
أضف إلى ذلك أنه يمكن إطلاق المسيرات من تلك الحاملات لجمع المعلومات الاستخباراتية في الوقت الفعلي، ومراقبة تحركات الأهداف، وتوفير الوعي الظرفي للقادة في غرف اتخاذ القرار، ثم تنفيذ ضربات دقيقة ضد أهداف عالية القيمة، لأنه من المعروف أنه كلما كانت المسافة بين المسيرة وهدفها أقل كانت الدقة أعلى.
وسيكون لحاملة المسيرات دور مهم حينما تنطلق المسيّرات منها في أسراب تكتيكية. وعلى سبيل المثال، فإنه في سيناريو الحرب، سيكون الدور الرئيسي لمسيّرات مثل "مهاجر 6" هو تدمير أنظمة الدفاع الجوي وتمهيد الطريق لسلسلة "شاهد" للتوغل في أراضي المنطقة المستهدفة، في حين تقوم فرقة ثالثة من المسيّرات بالاستطلاع ودراسة الضربة.
وجود حاملات المسيرات سيضيف دقة لتلك الضربات، لكن ما سبق لا يعني أن الحاملة ستمثل طفرة في الصراعات التي تخوضها إيران، وذلك لعدة أسباب، منها أن تحويل السفن التجارية لسفن عسكرية له عيوبه، فهي غير مجهزة لخوض المعارك البحرية، ويمكن استهدافها بسهولة خاصة في وجود حماية ضعيفة.
كما أن إيران لا تمتلك قوة بحرية كبيرة يمكنها خوض معارك من هذا النوع ببراعة، وبالتالي فإن الهدف من هذه الحاملات لا علاقة له ببناء قوة بحرية بقدر ما هو تقريب المسافة بين المسيرات وأهدافها بشكل متخفٍ، وهو أمر يمكن بالفعل أن يحقق أهدافه المرجوة بتقريب سلاح إيران الأهم من أهدافه في أي مكان كان قريبا من إيران أو بعيدا عنها.