نشر موقع «ذا غرايزون» (The Grayzone) الأميركي الذي يُعنى بالصحافة الاستقصائية أخيراً تقريراً مفصّلاً، فنّد فيه مجموعة من الأخبار المفبركة التي نُشرت على نطاق واسع عبر قنوات إعلامية ورسمية وغيرها، ضمن الحرب الإعلامية التي يشنّها الغرب بقيادة الولايات المتّحدة الأميركية على الجمهورية الإسلامية في إيران لاستغلال الاحتجاجات الجارية هناك منذ أشهر بعد حادثة مهسا أميني، من أجل مآرب سياسية معروفة، ولا سيّما الضغط على طاولة مفاوضات الاتفاق النووي وضمان أمن «إسرائيل» والردّ على المساعدات العسكرية الإيرانية المزعومة لروسيا. ولئن كان من الطبيعي ألّا يخلو حدث كبير مشابه من انتشار الأخبار الكاذبة والشائعات والأضاليل التي قد يشارك حتى النظام الإيراني نفسه في بثّ بعضها، إلّا أنّ تأثير ما ينشره الغرب ومعاونوه يأتي بحجم تبرير حرب عسكرية قد تجرّ المنطقة برمّتها إلى الدمار وحتى إلى حرب نووية لا يمكن توقّع مدى كارثيّتها على العالم بأسره. الهدف من تلك الأخبار التي تبقى بغالبيّتها غير مصحّحة، هو نفسه الهدف الذي كان وراء الحروب الأميركية على فيتنام وأفغانستان وكوسوفو والعراق وسوريا وليبيا وغيرها

لم يكن الادّعاء الغربي قبل أشهر بأنّ إيران تنوي إعدام 15 ألف شخص لمشاركتهم في التظاهرات، هو الخبر الكاذب الوحيد الذي أسهمت الوسائل الإعلامية الغربية في فبركته أو نشره على نطاق واسع. الوسائل تلك اختبرت حملتها عبر «جرعات» متعدّدة كان أصغرها استخدام مشهد مأخوذ من مسلسل أذري، ووصلت حدّتها إلى ادّعاء حصول مجازر دموية. أمّا الطامة الكبرى فهي أنّ غالبية هذه الأخبار تبقى غير مصحّحة، وهي تصل إلى الجمهور الغربي كما الإيراني وخصوصاً الأجيال الشابة التي تُعدّ عصب الاحتجاجات. ورصد مقال ستاره صادقي وكريستوفر ويفر الذي نُشر على موقع «ذا غرايزون»، عدداً من الأخبار المفبركة أو تلك التي أُخذت خارج سياقها، وقد نشرتها وسائل إعلامية بحجم «هيئة الإذاعة البريطانية» و«سي أن أن» و«نيويورك بوست» و«ذا غارديان» و«لو موند» وغيرها. في ما يلي نقطة من بحر الأكاذيب الإعلامية المستمرّ منذ أشهر.

خبر إعدام 15 ألف متظاهر
أخطر الأخبار الكاذبة التي انتشرت حول الاحتجاجات في إيران كان في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي. قيل يومها إنّ البرلمان الإيراني صوّت لصالح إعدام 15 ألف متظاهر.
سرعان ما انتشر الخبر بشكل واسع، وأعاد نشره على تويتر كلّ من وزير الخارجية الأميركي السابق مايك بومبيو، ورئيس الحكومة الكندي جاستن ترودو، ورئيس «مجموعة أوراسيا» يان بريمر، والصحافية الإيرانية-الأميركية الداعمة لتغيير النظام مسيح علي نجاد، والسيناتور الأميركي ميت رومني، وآخرون. ورغم تكذيب الخبر بعد فترة وجيزة وحذف عدد من أصحاب التغريدات ما نشروه، إلّا أنّ وتيرة انتشاره أثبتت القدرة الأميركية على تأمين موافقة الجماهير على حروبها عبر تبريرها بالشعارات الإنسانية، أي كما سبق أن حصل في حرب الخليج الأولى وغزو العراق وقصف فيتنام والتدخل في ليبيا، وكانت جميعها نتاج أخبار اتّضح لاحقاً أنّها كاذبة، باعتراف المسؤولين عنها أنفسهم.

خبر الإعدام دسّته مجلّة «نيوزويك» في أحد مقالاتها، ووضعت مقالاً من موقع CNN على أنّه مرجعها، إلّا أنّ مقال CNN لم يتضمّن الرقم الهائل الذي أعجب «نيوزويك». فمن أين أتت المجلّة بهذا الرقم؟ الرقم ورد في تغريدة لأوميد ميماريان، وهو موظّف في منظمة «الديمقراطية الآن للعالم العربي» (Dawn MENA) التي تأسّست سنة 2020 تخليداً لذكرى عميل الـ«CIA» جمال خاشقجي بعد مقتله في السفارة السعودية في تركيا، والتوتّرات التي سادت العلاقات الأميركية السعودية، خصوصاً أنّ خاشقجي كان يحمل الجنسية الأميركية. وأُلحقت تغريدة ميماريان بأخرى لكريم سجادبور، وهو محلّل سياسي يعمل لدى «مؤسسة كارنيغي» المدعومة من «حلف شمال الأطلسي». ما سبق يعطي فكرة عن مصدر الادّعاءات الأميركية التي برّرت الحروب والغزوات سابقاً، إلّا أنّ الجديد اليوم هو انتشار الإنترنت حتى بات سهلاً تكذيب هذه الأخبار، من سكّان البلد المستهدَف أنفسهم.

عدد القتلى في إيران أكثر منه في أوكرانيا
في منشور على صفحاتها على فايسبوك وإنستغرام في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي أيضاً، أوردت قناة «هيئة الإذاعة البريطانية» الناطقة بالفارسية (BBC Persian) عنواناً ادّعت فيه أنّ عدد الّذين قُتلوا في إيران هو نفسه عدد مَن لقوا حتفهم في أوكرانيا، قبل أن تشرح في ثالث مقطع من المقال تحت منشورها أنّ تعبيرها المجازيّ يقارن بين 224 إيرانياً لقوا مصرعهم بين 22 أيلول (سبتمبر) و17 تشرين الأوّل (أكتوبر) الماضيَين، وبين 216 أوكرانياً بين الأوّل من أيلول الماضي والـ25 منه. يقول كاتبا مقال «ذا غرايزون» إنّه وفقاً لهذا المنطق المشوَّه نفسه، كان بإمكان BBC الادّعاء بأنّ «عدد الذين قُتلوا اليوم في إيران أكثر من الذين ماتوا في الحرب العالمية الأولى»، مع بعض التوضيحات اللاحقة بأنّها كانت تشير فقط إلى يوم واحد من هدنة عيد الميلاد عام 1914.

مجزرة كاملة المواصفات
نشر موقع «يورونيوز» بنسخته الفارسية سلسلة صور عشوائية زعم أنّها تعود إلى جثث متظاهرين من مختلف المناطق الإيرانية بعد فتح قوات الأمن النار عليهم. الموقع استند إلى مراجع مهمّة مثل «الأخبار المتداولة على وسائل التواصل الاجتماعي» و«يقال»، قبل أن يورد في أسفل الصفحة أنّ ««يورونيوز» لا تستطيع التحقق من صحة الخبر». هكذا، يكون الموقع قد برّأ نفسه من خبر يعرف أنّه غير صحيح بعدما وضع عنواناً له ونشر صوراً معه، أي كما يقال بالعامية: «اللي ضرب ضرب واللي هرب هرب».

اختفاء إلناز رکابي
زعمت CNN زوراً أنّ منزل عائلة المتسلّقة الإيرانية إلناز ركابي، هدمته السلطات كعقاب لمشاركتها بدون حجاب في مسابقة في كوريا الجنوبية في تشرين الأوّل (أكتوبر) 2022، رغم تأكيد ركاب أنّ عدم ارتدائها الحجاب كان لأسباب رياضية ولا علاقة له بالسياسة. سرعان ما بدأت مواقع إلكترونية غربية تنشر قصصاً عن اختطاف ركابي وتدمير منزل عائلتها. وزعمت «نيويورك بوست» (المملوكة لروبرت مردوخ) وBBC و«ذا غارديان» و«لو موند» وآخرون أن ركابي اختفت، ما دفع السفارة الإيرانية في كوريا الجنوبية إلى تأكيد أنّ ركابي بخير، قبل أن تعلن الأخيرة ذلك بنفسها على إنستغرام وأنها في طريقها إلى المنزل.

أمّا بخصوص تدمير منزل عائلتها، فقد أظهرت وسائل إعلام محلّية إيرانية أنّه يعود لشقيقها وتمّ هدمه بسبب مخالفات في البناء في حزيران (يونيو) الماضي، أي قبل خمسة أشهر من مشاركة المتسلّقة في المنافسة، وهو ما تؤكّده الصوَر حيث يظهر الفرق بين الفصول في أوراق الشجر.

مشهد لأب يبكي مأخوذ من مسلسل
في أيلول (سبتمبر) الماضي، أعادت الكاتبة الشهيرة جي كي رولينغ نشر تغريدة ورد فيها: «فاجعة، والد إيراني وعد ابنته بالبقاء على قيد الحياة للرقص في حفل زفافها، انتهى به الأمر راقصاً في جنازتها بعدما قُتلت على يد شرطة الآداب الإيرانية لعدم تغطية شعرها». ورافق التغريدة مقطع فيديو، قبل أن يتبيّن أنّه مأخوذ من مسلسل درامي أذري من سنة 2018 (اسمه Ata ocağı). لكنّ تلك لم تكن المشكلة الوحيدة؛ المقطع نفسه تمّ نشره سابقاً، مع ادّعاء أنّ «النظام السوري» قتل الابنة، قبل أن يعاد نشره مرّة أخرى خلال فترة انتشار «كورونا» والادّعاء بأنّ الفيروس قتلها. ليس معروفاً بعد كم مرّة سيتمّ استخدام المشهد نفسه في المستقبل لكسب استعطاف الناس حول أشخاص لا وجود لهم في الحقيقة.

أخبار مفبركة أخرى
أخبار مفبركة أخرى كثيرة تُنشر كلّ يوم على وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، لكنّها ليست ذات أهمّية نظراً إلى تأثيرها المحدود بالمقارنة مع ما سلف.

تقرير «ذا غرايزون» استعرض بعض الأمثلة، كادّعاء مغنّي الروك براين آدامز أنّ «صديقه» المغنّي سيرفان خسروي سُجن قبل أن يؤكّد الأخير عدم صحّة ما قيل، بالإضافة إلى انتشار صورة زُعم أنّها تعود لشابّة قُتلت، قبل أن يتبيّن أنّها لمغنّية الراب الإيرانية نيلوفار (Niloufar) وهي بخير، ونشر لاعب كرة القدم الإيراني الشهير علي كريمي صورة غير مكتملة على إنستغرام ادّعى أنّها لشابّ قُتل على يد الشرطة قبل أن يتمّ تكذيبه من معجبيه أنفسهم وينشر أحدهم الصورة الكاملة التي التقطها بنفسه وهي تعود لصديق له تعرّض لحادث درّاجة نارية وبُترت قدمه. لكنّ ما سبق يُبرز كمّية الأخبار الكاذبة التي نتعرّض لها كلّ يوم مهما كبرت أو صغرت، وليس فقط في ما خصّ الملفّ الإيراني.

المصدر: نزار نمر - الاخبار