يطرح الهجوم الإسرائيلي الأخير على «أهداف عسكرية» في إيران، والذي يُعد الأول الذي تتبناه تل أبيب ضدّ طهران، تساؤلات حول ما إذا كان سيشكل «نهاية» الصراع المباشر المستمر بين الطرفين منذ نحو سنة، أم بداية جولة جديدة من التصعيد بينهما. وبالعودة إلى أبرز التطورات الميدانية ذات الصلة في الأشهر الماضية، فإنّ عملية «الوعد الصادق» الأولى، والتي نفّذتها إيران، في الأول من نيسان، رداً على العدوان الإسرائيلي على قنصليتها في دمشق، وعلى الرغم من أنّها اتسمت بطابع «رمزي» أكثر من كونها مهمة من حيث النقاط والمواقع المستهدفة والأضرار التي تسببت بها، فهي هدفت إلى إظهار «إرادة» إيران الدخول في «معركة مباشرة» مع إسرائيل، بعد سنوات من «حرب الظل» بينهما. ومذّاك، دخل الجانبان في مسار «مكوكي»، دفع بإسرائيل إلى شنّ هجوم استهدف رادار منظومة الدفاع الجوي «إس 300» في قاعدة أصفهان الجوية وسط إيران، من دون أن تتبناه رسمياً.
وحمل ذلك الهجوم البعض على التكهن بأنّ التصعيد بين تل أبيب وطهران قد وصل إلى نهايته، قبل أن تعمد إسرائيل إلى اغتيال رئيس المكتب السياسي لـ»حماس»، إسماعيل هنية، في طهران، نهاية تموز، عندما حلّ ضيفاً على الجمهورية الإسلامية. وإذ قررت إيران إرجاء ردها على هذا الاعتداء على أراضيها، مع بدء جولة جديدة من محادثات وقف إطلاق النار في غزة، فقد دفع اغتيال الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصرالله، والقيادي الكبير في «الحرس الثوري»، عباس نيلفروشان، في الـ27 من أيلول، بها إلى تنفيذ عملية ثانية ضد إسرائيل، هاجمت فيها عدداً من المنشآت العسكرية الإسرائيلية في الأول من تشرين الأول، بأكثر من 180 صاروخاً باليستياً.
وأخيراً، وبعد 26 يوماً على الهجوم الإيراني الثاني، شنّت إسرائيل هجومها «الانتقامي»، في أعقاب مباحثات مكثفة مع حليفتها واشنطن، وضغط الأخيرة في اتجاه عدم استهداف المنشآت النووية والنفطية الإيرانية، والتي كان سيؤدي ضربها إلى تصعيد «من العيار الثقيل»، يجر واشنطن إليه، ما دفع بالبعض إلى الحديث عن أنّ الولايات المتحدة «أغرت» حليفتها بمنظومة «ثاد» للدفاع الجوي لـ»ضبط» ردها. إلا أن هذا الرد رآه العديد من المراقبين «محدوداً»، بل حتى «أدنى» ممّا كان متوقعاً، وسط عدم رغبة تل أبيب، الغارقة في حربها مع حزب الله في لبنان، إلى رفع مستوى التصعيد مع طهران. على أن ذلك لا يعني أنّ الهجوم كان «ضعيفاً»؛ إذ ثمة معطيات تفيد بأنّه ألحق بعض الأضرار بمنظومات الدفاع الجوي الخاصة بمنشآت الطاقة، ومنشآت إنتاج الصواريخ والمُسيّرات في إيران.
وعلى أي حال، تنذر التصريحات الصادرة من جانب طهران بأن الأخيرة لن تشنّ أي هجوم على تل أبيب في المستقبل المنظور أقله، وسط إعلان وزارة الخارجية الإيرانية، في بيان، أن طهران تحتفظ بـ»حق الرد على العدوان الإسرائيلي»، في أعقاب مقتل خمسة عسكريين إيرانيين. ومن جهتها، أعلنت «هيئة الأركان العامة» للقوات المسلحة الإيرانية، في بيان، أنّ «الجمهورية الإسلامية الإيرانية، تعتبر أن الرد على هذا الهجوم (في الوقت المناسب)، هو حق قانوني لها»، مطالبةً بالمقابل بـ»وقف إطلاق نار مستدام في غزة ولبنان»، في موقف انسحب على وزير الخارجية الايراني، عباس عراقجي، الذي أكّد، خلال اجتماع للجنة الأمن القومي في البرلمان، أن «حق الجمهورية الإسلامية الإيرانية في الرد على عدوان إسرائيل محفوظ، وسنقوم بالرد في الوقت المناسب»، مطالباً الأمين العام لـ»الأمم المتحدة» ورئيس مجلس الأمن بعقد «اجتماع عاجل للمجلس لاتخاذ موقف حاسم في إدانة هذا العدوان». أما المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية، السيد علي خامنئي، فشدّد على أنّه «لا ينبغي تضخيم العدوان الصهيوني على إيران ولا التقليل منه»، لافتاً إلى أنّ «المسؤولين سيقرّرون كيفية جعل الكيان يفهم إرادة الشعب الإيراني»، متحدثاً عن ضرورة اتخاذ إجراءات «تضمن مصلحة الشعب والبلاد». ومن جهته، أوضح الرئيس الإيراني، مسعود بزشكيان، أنّ ايران «سترد بحكمة وذكاء».
بناءً على ما تقدّم، لا يزال من المبكر التنبؤ بأنّ جولة التصعيد المباشر بين الطرفين قد وصلت إلى نهايتها، ولا سيما أنّ التطورات القادمة تبقى رهن التطورات الأوسع في المنطقة، بما في ذلك الحرب المصيرية المفتوحة على الجبهة اللبنانية. بمعنى آخر، وبينما تبحث إسرائيل عن «نصر» ضدّ حزب الله، لتتجه في ما بعد إلى «إضعاف» باقي أضلاع محور المقاومة، وفرض «نظام إقليمي» يتلاءم مع تطلعاتها، تسعى كل من إيران والحزب، في المقابل، إلى إضعاف إسرائيل ووضع حدّ لعدوانها من خلال فرض حرب استنزاف باهظة عليها.