ليس هناك غير الحرب منذ بدء العدوان الصهيوني على قطاع غزة. وذلك ببعديه: الحرب البريّة وحرب الإبادة البشرية والتدميرية. وكانت هذه الحرب الإجرامية مستمرة طوال سنة كاملة، وما زال حبلها على رسله. وقد توسّعت لشنّ عدوان تدميري، وشبه إبادي على لبنان، وما زال حبلها على رسله.
وكان التوقف في هذه الحرب، والذي يعني، موضوعياً، دحراً للعدوان، ولجرائم حرب الإبادة المحرّمة دولياً، بيد نتنياهو وحده. ويمكن أن يضاف بيد بايدن، لأن أميركا وحدها كانت قادرة على إجباره، بسبب اعتماد الكيان الصهيوني عليها، من الدولار إلى الصواريخ، والطائرات والقذائف. ولكن بايدن طرف أساسي في هذه الحرب، منذ قرار إطلاقها. وثبت أيضاً، وفي الوقت نفسه الذي استمر فيه الدعم الأمريكي، أنه كان يميل إلى النفاق، أو حتى كان عاجزاً عن الضغط الكافي، لإجبار نتنياهو على وقفها، حتى حين كانت السياسة الأميركية ترى لها هدفاً ما من وقفها.
راح نتنياهو يصر على استمرار العدوان، وحرب الإبادة في غزة، رغم فداحة خسائره في الحرب البريّة، ورغم ما أصاب الكيان الصهيوني من تدهور لسمعته، من قِبَل الرأي العام العالمي. ما سيكون له أثره الإستراتيجي في «شرعية وجوده» مستقبلاً، وهي «شرعية» باطلة أصلاً، من وجهة نظر القانون الدولي.
حدث في 17/9/2024، غير المتوقع، وهو ما عرف بتفجير البيجرات، بأيدي ما لا يقل عن أربعة آلاف من كوادر حزب الله، أدت إلى إصابات خطيرة جداً في الوجوه والأيدي. وقد سبقه سلسلة من الاغتيالات، كان أخطرها اغتيال الشهيد فؤاد شكر، ثم تلاها تفجير عدة مئات من أجهزة الاتصال اللاسلكي، ثم ليتبعها تفجير اجتماع لقادة وكوادر من قوات الرضوان، وأخيراً، وليس آخراً، الوصول إلى اغتيال سيد المقاومة الشهيد حسن نصر الله، ليترك جرحاً عميقاً في قلوب الملايين.
هذه الأحداث أوهمت نتنياهو أن في استطاعته شنّ حرب شاملة ضد حزب الله، بهدف القضاء على المقاومة، وإخراجها من الصراع، ومن وحدة الساحات. ولكن هذا الوهم سرعان ما تبدّد خلال بضعة أيام، حيث استطاع حزب الله أن يعيد تنظيم صفوفه، وإعادة السيطرة أو التحكم. بل استعادة زمام المبادرة في القتال ضد الجيش الصهيوني. وقد سدّ في وجهه اقتحام الجنوب. كما راح يسدّد الضربات العميقة في نطاق كل من حيفا وتل أبيب والجليل. الأمر الذي يسمح بالقول إن حزب الله تجاوز محنة تلك الأيام التي سبقت تفجير البيجرات وتلته. وقد تحوّل استشهاد السيد حسن نصرالله إلى قوّة دفع هائلة، في صفوف حزب الله، قادة وكوادر، ومقاومين، كأنه ما زال يقود المقاومة شخصياً.
ورغم اشتداد الإجرام الإبادي الذي يتعرض له القسم الشمالي من قطاع غزة، ورغم الصمود الأسطوري في وجه ذلك الإجرام، عبر الصبر والإيمان والاحتساب والمدد من الله، فإن المقاومة في قطاع غزة، ورغم استشهاد قائد الشعب الفلسطيني وقائدها الشهيد المقاتل يحيى السنوار، إلاّ أن النواة القائدة التي خلفها وراءه، ومجموع القادة والمقاومين الأبطال، من محبيه وتلامذته، ما زالوا يتابعون المقاومة، وتحقيق الإنجازات، كما لو كان السنوار ما زال بينهم شخصياً.
بكلمة، ميزان القوى العام، وفي الميدان على وجه الخصوص، عاد ليحتل مكانته الأولى، طوال العام الفائت، من أكتوبر 2023 إلى أكتوبر 2024، في قطاع غزة كما في مساندة محور المقاومة، وعلى الخصوص في الانتقال بالمساندة إلى مركز الحرب في لبنان. الأمر الذي يسمح بالتأكيد أن قواعد الاشتباك الراهنة هي في مصلحة المقاومة، رغم بعض الظواهر التي تحز بالنفس، وتدفع بالبعض إلى الخوف من التطورات اللاحقة، ولا سيما بسبب إمعان العدو في القصف والتدمير، والقتل الجماعي للمدنيين. علماً أن القصف، مهما بلغت وحشيته، والتدمير مهما اتّسع وعمّ، فإنهما لا يقرران مصير الحرب. وهو المصير الذي يتقرر في الميدان القتالي المباشر. وهو الميدان الذي تتمتع فيه المقاومة بالتفوّق، والتحكم في مصير آخر يوم في الحرب. وهو اليوم الذي يقرّر مستقبل يومها التالي، كما هو الحال في كل الحروب.
على أن هذا التقدير للموقف أصبح، إلى ما قبل 26/10/2024، مرتبطاً بنوع الضربة العسكرية التي يعدّ لها الكيان الصهيوني ضد إيران. لأن المستوى الذي ستكون عليه الضربة العسكرية، وما ستردّ به إيران، سيدخل الوضع الراهن في مرحلة جديدة، وفي ميزان قوى جديد. بل ربما يصل الأمر، كما يريد نتنياهو، إلى حرب إقليمية تكون أميركا طرفاً مباشراً فيها. ما يجعلها حرباً طويلة الأمد، ويترك أثراً عميقاً في ميزان القوى العالمي، بين أمريكا وحلفائها من جهة، والصين وروسيا من جهة أخرى.
من هنا، فإن مستقبل الوضع الراهن، ارتبط بمدى قدرة النفوذ الصهيوني في الإدارة الأميركية على جرّها إلى حرب مباشرة مع إيران، ثم مع محور المقاومة، وبأشد ما تكون الحرب عليه. فأميركا مواجهة باختيار تغليب إحدى الأولويّتين: أولوية صراعها مع الصين، حيث الخطر الحاسم على مستقبل نفوذها العالمي من جهة، وأولوية الحرب ضد إيران، لحساب الكيان الصهيوني. ما يحرف تركيزها على أولوية الصراع مع الصين وروسيا، من جهة أخرى.
فالحرب مع إيران والمحور لن تكون رحلة سريعة، تحت كل الاعتبارات. ثم يصبح التورّط فيها خدمة جلّى تقدّم للصين، القوّة الوحيدة القادرة على زحزحة النفوذ الأميركي العالمي، عسكرياً واقتصادياً وتقنياً وسياسياً.
ولهذا، إن أميركا كانت أمام اختيار صعب، وأمام دفع ثمن غالٍ جداً، لتغليب الأولويات الصهيونية، على أولويتها الأميركية العليا.
من هنا، فإن تأخر الضربة الصهيونية ضد إيران، يرجع إلى القرار الأميركي الذي انقاد طويلاً وراء تغليب المصلحة الصهيونية الضيقة، على المصلحة الإستراتيجية الأميركية العليا. وذلك كما حدث في عهدي كل من بيل كلينتون وجورج دبليو بوش، عندما غرقا في وهم إعادة بناء الشرق الأوسط الجديد (كلينتون)، أو الشرق الأوسط الكبير (بوش الابن)، وتركا أولوية هزيمة روسيا، بتجريدها من السلاح النووي وتقسيمها، كما أولوية «احتواء الصين»، ومنعها من الوصول إلى كل أطراف العالم بتجارتها، وإطلاق كل طاقات التطوير التقني لديها.
فكانت النتيجة الفشل في بناء شرق أوسط جديد، أو شرق أوسط كبير. ثم تحوُّل روسيا مرّة أخرى، على يد بوتين، إلى دولة كبرى تمتلك مخزوناً نووياً وصاروخياً، يتهدّد أميركا والغرب، بالتدمير الشامل، كما تحوّل الصين إلى دولة عظمى، مرشحة لأن تحلّ مكان أميركا، في احتلال الرقم واحد في العالم.
وبهذا تتكرر الإشكالية اليوم؛ بين إعطاء الأولوية لمواجهة الصين وروسيا من جهة، وبين تأجيل ذلك لبينما يُقضى على إيران ومحور المقاومة، لتغيير خريطة الشرق الأوسط، كما يرسمها نتنياهو. وهو هدف مصيره الفشل الحتمي، كما كان مصير هدفي بناء شرق أوسط جديد، أو كبير.
ولهذا جاءت ضربة الكيان الصهيوني لإيران في 26/10/2024، بناء على القياس الأميركي، وليس كما يريد نتنياهو، ضربة قاسية تجبر إيران على الردّ عليها، ثم الردّ على الردّ الإيراني، بما يعني تفجّر الحرب الإقليمية الأميركية - الصهيونية ضدّ إيران.
رغم التقيّد الصهيوني بالشروط الأميركية للضربة، ورغم اعتبار إيران للضربة بأنها محدودة التأثير، إلا أنها احتفظت بحق الردّ، لأن الضربة الصهيونية، بغض النظر عن حجمها، تعتبر اعتداءً على سيادة إيران، ثم حقها المطلق في الردّ عليها. ولهذا احتفظت إيران بهذا الحق، وممارسته «في الوقت المناسب»، وأضافت ربط الردّ بضرورة وقف العدوان الصهيوني على غزة ولبنان.
وبهذا تكون المرحلة الجديدة، بناء على مستوى الضربة الصهيونية، وبناء على معالجة إيران لحقها في الردّ، ليس عاجلاً، وإنما «في الوقت المناسب»، مع الإلحاح على ضرورة وقف العدوان على غزة ولبنان.
الأمر الذي يعني أن المرحلة «الجديدة» ستكون، أقرب ما تكون، إلى المرحلة السابقة للضربة الصهيونية الأخيرة ضد إيران. فالوضع، من ناحية الحرب، سيظل مركزاً على حرب الإبادة، وعمليات المقاومة في غزة، ومركزاً على استمرار الحرب في لبنان، في ظروف استعادة حزب الله لزمام المبادرة، وبمستوى أعلى من مرحلة، ما قبل الردّ الصهيوني على إيران في 26/10/2024.
عملياً، وموضوعياً، يكون الكيان الصهيوني، أو نتنياهو، قد خسرا في المواجهة مع إيران، وزاد مأزقهما في الحرب مع المقاومة في غزة ومع حزب الله في لبنان، وذلك بتصعيد ما ينتظرهما، من حرب برّية في جنوب لبنان، وقصف في العمق (حيفا وتل أبيب والجليل).
* كاتب وسياسي فلسطيني