فيما كان الملف النووي الإيراني يُهمَّش شيئاً فشيئاً، على خلفية تزايد التصعيد في المنطقة، فهو عاد مع فوز دونالد ترامب، الذي يضع ضمن أولويات سياسته الخارجية تقليص قدرات إيران النووية، برئاسة الولايات المتحدة، إلى تصدُّر الواجهة من جديد، لتنطلق على تلك الخلفية المشاورات والحراك الدبلوماسي. وفي هذا الإطار، وصل المدير العام لـ»الوكالة الدولية للطاقة الذرية»، رافايل غروسي، ليل أمس، إلى طهران، على أن يلتقي، اليوم، كبار المسؤولين الإيرانيين، بمن فيهم رئيس الجمهورية مسعود بزشكيان.
وتجيء هذه الزيارة في وقت تمرّ فيه العلاقات بين الجانبين، بأسوأ حالاتها، وسط تراكم القضايا الخلافية بينهما. ولذلك، وصف غروسي زيارته إلى العاصمة الإيرانية، بـ»المهمّة جداً»، فيما أعلنت الوكالة الدولية أن تطبيق الاتفاق المبرم بينها وبين إيران، في آذار 2023، سيشكّل محور المشاورات التي يجريها مديرها مع المسؤولين الإيرانيين، علماً أن الاتفاق المذكور، كان بمنزلة خارطة طريق لتسوية تلك الخلافات، لكنه لم يوضع موضع التنفيذ بالكامل. وعشية زيارته إلى طهران، دعا غروسي القادة الإيرانيين إلى التعاون من أجل تسوية القضايا العالقة، قائلاً: «على السلطات الإيرانية أن تفهم أن الوضع الدولي يزداد توتراً، وأن هوامش المناورة بدأت تتقلّص، وأن إيجاد سبل للتوصّل إلى حلول دبلوماسية هو أمر ضروري». ومن جهته، لفت وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، أمس، إلى أنه «بفضل الموقف الإيجابي لغروسي، فإن الظروف مهيّأة لتطوير التعاون بين إيران والوكالة»، مضيفاً: «بهذه الروح الإيجابية، سيتم رسم مسار جديد للتعاون».
ويُعد امتناع طهران عن إصدار التأشيرات لمفتّشي الوكالة، وإحجامها عن تركيب بعض كاميرات المراقبة في المنشآت النووية، وعدم معالجتها الملف المتعلّق بالعثور على جزئيات اليورانيوم المخصّب في موقعَين إيرانيَّين غير معلنَين، أهم الخلافات العالقة. وكانت الجمهورية الإسلامية، وعلى خلفية الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي، في عام 2018، وإعادة فرض العقوبات ضدّها، ثمّ فشل المحادثات الرامية إلى إحياء الاتفاق في ظلّ إدارة جو بايدن، بادرت إلى تطوير برنامجها النووي وخفض مستوى علاقاتها مع وكالة الطاقة، كأداة ضغط ومساومة.
وفي خضمّ ذلك، تحمل زيارة غروسي طابعاً خاصاً، في ظل فوز ترامب الذي تُظهر تصريحاته أنه سيولي الملف النووي الإيراني أهمية، وأنه ينوي ممارسة ضغوط جديدة على الجمهورية الإسلامية. وكرّر ترامب على الدوام أنه لن يسمح لإيران بامتلاك سلاح نووي، علماً أن هذه الأخيرة تؤكد أن برنامجها النووي ليس عسكريّاً، وهو ما تتّفق معه «وكالة الطاقة الذرية». ولذا، فإن الرئيس المنتخب سيسعى إلى تقييد البرنامج النووي الإيراني، ولا سيما تخصيب اليورانيوم (يسمح اتفاق عام 2015 لإيران، بتخصيب اليورانيوم عند مستوى 3.67%، لكن طهران رفعت هذه النسبة إلى مستوى 60%، ما يعني من وجهة نظر الغرب، تحرّكها في اتجاه تطوير سلاح نووي أو اكتساب القدرة على تصنيعه في أقلّ تقدير).
وذكر أحدث تقرير صدر عن المدير العام لـ»الوكالة الدولية للطاقة الذرية»، في أيلول الماضي، أن كمية اليورانيوم المخصّب بنسبة 60%، ارتفعت إلى 164.7 كيلوغراماً، بزيادة قدْرها 22.6 كيلوغراماً، مقارنة بالتقرير الذي صدر في حزيران الماضي. كما أن إيران تمتلك 813.9 كيلوغراماً من اليورانيوم المخصّب بنسبة 20%، إذ ارتفعت كميّته بمقدار 62.6 كيلوغراماً. ويقول الخبراء إن ثمة حاجة إلى نحو 50 كيلوغراماً من اليورانيوم المخصّب بنسبة 60%، لتصنيع الرؤوس النووية. ومن أجل استخدامه في السلاح النووي، فإن نسبة التخصيب يجب أن ترتفع إلى 90%.
وإذ يساهم حديث السلطات الإيرانية عن احتمال تغيير العقيدة النووية الإيرانية، تزامناً مع تزايد التصعيد في المنطقة والهجمات الإسرائيلية، في تعزيز الدافع لدى الولايات المتحدة إلى تكثيف ضغوطها على إيران، فالظاهر أن ترامب سيسلك مسارَين في هذا الإطار: 1- المحادثات من أجل إبرام اتفاق جديد بالتوازي مع ممارسة الضغط؛ 2- وتنفيذ عمليات عسكرية ضدّ المنشآت النووية. ونظراً إلى أن تشرين الأول 2025، هو موعد انتهاء القيود على البرنامج النووي الإيراني، وفقاً لاتفاق عام 2015، فثمّة احتمال لأن تتحرّك واشنطن والدول الأوروبية في اتجاه إبرام اتفاق جديد مع طهران، أكثر تشدداً من سابقه، وربما يعارض مبدأ التخصيب في إيران من أساسه. ولذا، سيتجه ترامب، مرّة أخرى، نحو زيادة الضغط على الدول التي تشتري النفط الإيراني، وتكثيف الضغوط الاقتصادية على الجمهورية الإسلامية، بما يخدم تبديد القلق الإسرائيلي من البرنامج النووي الإيراني.
ومع ذلك، فإن الضغوط القصوى التي مارسها ترامب خلال ولايته الرئاسية الأولى على إيران، أحدثت مشاكل للأخيرة في المجال الاقتصادي، لكنها لم تؤدّ إلى تغيير أهدافها، وهو ما يطرح شكوكاً حول نجاعة أي استراتيجية مماثلة. كما أن هجوماً عسكرياً على المنشآت النووية الإيرانية، إذا لم تكن إيران مستعدة لعقد اتفاق جديد لتقييد برنامجها النووي، يثير شكوكاً مشابهة حول فاعليته وجدواه، خصوصاً أنه يمكن أن يترك تداعيات ضخمة، ويفسح المجال أمام إيران للانسحاب من معاهدة الحدّ من انتشار الأسلحة النووية.