تواصل إسرائيل، منذ أن أعلنت عن هجماتها الأخيرة في إيران، الدفاع عن إنجازات تقول إنها حقّقتها ضدّ مروحة واسعة من الأهداف الإيرانية، بحيث لم تُبقِ السردية العبرية أيّ مكوّن من مكوّنات القدرة لدى عدوها، خارجها، بما فيها القدرات الدفاعية والهجومية والتصنيعية. وفي هذا الإطار، يبدو أن المبالغة جاءت بتوجيهات عليا، للرد على انتقادات داخلية وتعبيرات لافتة عن خيبات الأمل، صدرت عن ساسة وخبراء وجمهور، ومثّلت السمة الرئيسية للتشكيك في تلك «الإنجازات». وفي المقابل، فإن التهوين الذي صدر عن الجانب الثاني، أي إيران، عاد ليستقر على ما هي عليه الخسائر، علماً أن ذلك التهوين كان محدوداً نسبياً قياساً إلى المبالغات التي وصلت إليها الرواية الإسرائيلية على لسان من يعتمدهم الناطق العسكري للجيش، في تسويق سردياته.
واللافت في هذه الأخيرة، الإفراط في تعظيم الإنجازات، ومن بينها أن إيران لن تستطيع استئناف صناعة الصواريخ الباليستية البعيدة المدى، إلا بعد مرور عام كامل. ويذكّر هذا الأمر بتقديرات إسرائيلية في أعقاب التفجير الذي وقع في منشأة نطنز النووية قبل أعوام، والتي حكمت آنذاك بأن البرنامج النووي تأخّر سنوات طويلة نتيجة التفجير، الأمر الذي دحضه الرفع الإيراني الفوري لنسبة التخصيب، بعد التفجير مباشرة، بكميات كبيرة نسبياً. وتبرز في المبالغات الإسرائيلية الأحدث، إرادة لتعزيز صورة المكاسب لدى الجمهور الإسرائيلي أولاً، والذي كان توقّع ما لم تستطع قيادته تنفيذه. والمفارقة هنا، أن المصادر العسكرية الإسرائيلية أكدت، في المقابل، عبر الإعلام الأميركي الناطق بالإنكليزية، أن الرد الإسرائيلي جاء محدوداً، لأن تل أبيب لا تريد الانغماس في مواجهة سلسلة هجمات وهجمات مقابلة مع الجانب الإيراني.
ثانياً، ثمّة إدراك مسبق بأن إيران لم تقل كلمتها بعد، إذ إن تصريحات المسؤولين الإيرانيين، لا تعبّر عن توثب للرد على الرد، وإن كانت في الوقت نفسه لا تسمح لتل أبيب بالاطمئنان إلى أن طهرن ستحجم عن أي فعل. وفي هذا السياق، يندرج كلام المرشد الإيراني، السيد علي خامنئي، عن أن «الكيان الصهيوني أخطأ في الحسابات ويجب تفهيمه إرادة الشعب الإيراني».
ثالثاً، تأمل تل أبيب المساومة على إيقاف سلسلة الضربات، الأمر الذي يفسّر ما ورد من واشنطن، وبالتبعية من الأولى، بأن الرد الإيراني على الرد الإسرائيلي، من شأنه أن يتسبب بعرقلة الجهود التي تُبذل لوقف إطلاق النار. وفي هذا الأمر، إشارة إلى بدء تدفق العروض الأميركية على إيران، والتي سترتفع وتيرتها في الأيام المقبلة، سواء داخل الغرف المغلقة أو عبر الرسائل المنقولة من قِبل أطراف ثالثة.
وعلى أي حال، تأمل إسرائيل أن يكون هجومها الأخير قد ظهّر قدرتها على الوصول إلى الأهداف داخل الأراضي الإيرانية، وأفهم الإيرانيين إمكاناتها في إيذاء بلادهم، في حال قررت توسيع مروحة الضربات لتشمل أهدافاً اقتصادية ومدنية وبنية تحتية، وأن يفرمل بالتالي أي اندفاعة إيرانية إلى الاستمرار في المواجهة. لكنّ السؤال الذي يفرض نفسه هنا: ما الذي منع إسرائيل ابتداء عن توسيع مروحة الاستهداف، وحال دون ما كان ألمح إليه التهديد اللفظي؟
أياً يكن، فإن الكرة الآن في ملعب إيران، التي سيكون لها أن تحدد وجهة المواجهة ومستواها وحدّ الأذية فيها. والمُرجّح أن طهران ستربط ردها بجبهتَي لبنان وغزة، وتحاول استثمار الظروف التي باتت أكثر من مؤاتية للحل، في ظل بروز إشارات دالة من تل أبيب وواشنطن على بحثهما عن مخارج عبر تسويات سياسية، وذلك على وقع الخسائر الإسرائيلية المتتابعة في الميدان.