حظي توقيع "اتفاقية الشراكة الاستراتيجية الشاملة"، الجمعة الماضي، بين الرئيسَين الروسي فلاديمير بوتين، والإيراني مسعود بزشكيان، بمتابعة لافتة. فالمعاهدة الجديدة، والتي يؤكد مسؤولو البلدين أنها تغطّي مختلف جوانب العلاقات الثنائية، من التجارة إلى الدفاع، وصفها بوتين بـ"الاختراق الحقيقي" الذي من شأنه أن يخلق "الظروف الملائمة للتنمية المستقرّة والمستدامة" لكلٍّ من روسيا وإيران، وأن يوجِد "أساساً إضافياً مهماً لإرساء علاقات متبادلة قائمة على الثقة" بينهما، أشاد بها بزشكيان بعد لقاء القمّة في موسكو، مشدّداً على أنّ الاتفاقية التي تبلغ مدّتها 20 عاماً قابلة للتمديد، تمثّل "فصلاً جديداً من العلاقات الاستراتيجية" الثنائية. وفي معرض التأكيد على متانة العلاقات الإيرانية - الروسية، على رغم ما يُشاع عن خلافات حول بعض الملفات الإقليمية، أوضح بزشكيان أنّها تُعدّ "حيوية وحسّاسة" على المستوى الاستراتيجي بالنسبة إلى طهران، واضعاً موقفه في سياق تقارب وجهات النظر بين البلدين حول التدخلات الغربية في شؤون الدول، بخاصة في أوروبا والشرق الأوسط، وتأييدهما الحلول التفاوضية في أوكرانيا ومناطق أخرى، إذ أشار إلى أنّ "الحرب ليست حلاً"، منتقداً دور مَن سمّاها "القوى الخارجية التي تأتي من الجانب الآخر لزعزعة الاستقرار" على المستويَين الإقليمي والدولي، في موازاة دعوته واشنطن وحلفاءَها الغربيين إلى "الكفّ عن فرض الإملاءات"، و"الاعتراف بالمخاوف الأمنية" للآخرين.

وممّا استوقف المراقبين، تقاطع تصريحات الجانبَين على ضرورة النهوض بالعلاقات الثنائية، وتجاوز العقبات التي تحول دون ذلك، إذ أقرّ بوتين بأنّ حجم التعاون التجاري والاقتصادي لا يزال غير كافٍ، معرباً عن أمله في أن تساعد المعاهدة الجديدة في إزالة العقبات البيروقراطية وتوسيع العلاقات، ولا سيما لجهة تنفيذ مشروعات نقل الطاقة عبر منطقة القوقاز وبحر قزوين، وهو ما لاقاه الجانب الإيراني بموقف مشابه، جاء على لسان سفير إيران لدى روسيا، كاظم جلالي، حين قال إنّ زعماء البلدين أدركوا أن اتفاقية الشراكة الاستراتيجية القديمة بينهما قد تجاوزها الزمن، ولم تَعُد تعكس حقائق النظام العالمي والإقليمي الحالي، مضيفاً أنّ الاتفاقية الجديدة "تأخذ في الاعتبار كل جوانب علاقاتنا الثنائية، بما في ذلك الموقف السياسي لكلا البلدين (من الملفات الدولية والإقليمية)، وكيفيّة مقاربتهما مفهوم القوّة (في العلاقات الدولية)، وكيفية المضيّ قدماً في مسار التعاون".

 

حسابات روسية: "ميزان" العلاقة مع أميركا وإسرائيل… وضفتَي الخليج
الإعلان عن إبرام "اتفاقية الشراكة الاستراتيجية الشاملة" بين طهران وموسكو، أدرجه محلّلون في سياق سلسلة من الاتفاقيات العسكرية التي عقدتها روسيا مع عدد من حلفائها الدوليين منذ بدء الحرب في أوكرانيا، وفي طليعتهم كوريا الشمالية، وبيلاروسيا، علماً أن الاتفاقية الموقّعة مع طهران لا تتضمّن بنداً حول الدفاع المشترك، كما هو الحال مع بيونغ يانغ ومينسك، وتتضمّن بنداً يتعهّد بموجبه طرفا المعاهدة بعدم تقديم أيّ دعم عسكري أو أيّ شكل من أشكال الدعم الأخرى لحساب جهة معتدية على أحدهما. من هذا المنطلق، ترى صحيفة "نيويورك تايمز" أن الاتفاقية الروسية - الإيرانية الأخيرة تُعدّ جزءاً من جهود موسكو لمواجهة ما تراه "هيمنة غربية عدوانية وإمبريالية، تقودها الولايات المتحدة"، في موازاة سعيها إلى "تحسين موقفها على الصعيد الدولي قبل بدء الولاية الرئاسية الثانية" للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب، مستعرضةً أحد أبرز ما نصّت عليه الاتفاقية سواء لجهة "رفض الأحادية القطبية وسياسات الهيمنة الدولية"، أو "تنسيق استجابة البلدين للعقوبات الغربية، وتسهيل التبادل التجاري بينهما بالعملات الوطنية"، إضافة إلى ما جاء فيها حول "تبادل المعلومات الاستخبارية والتعاون في القضايا الأمنية" بينهما. وتضيف الصحيفة الأميركية أنّ الاتفاقية من شأنها أن تسهم في "تقارب البلدين اللذين تتوافر لديهما رغبة مشتركة في تحدّي الغرب".

ومع الإشارة إلى تنامي التعاون العسكري الروسي - الإيراني منذ تفجّر حرب أوكرانيا، تلفت "نيويورك تايمز" إلى أنّ حسابات روسيا في تطوير علاقتها بالجمهورية الإسلامية، تشمل أيضاً "العمل مع إيران ودول أخرى على تطوير بديل لنظام سويفت الغربي، الذي يرعى التبادلات المالية حول العالم"، وكذلك "ربط روسيا بالموانئ (الإيرانية) المطلة على منطقة الخليج".

وبالحديث عن كيفية إدارة موسكو لعلاقاتها مع طهران ربطاً بعلاقاتها بواشنطن وتل أبيب، ودول الخليج، يلفت المحلّل الروسي المختص في شؤون الشرق الأوسط، رسلان سليمانوف، إلى أنّ الاتفاقية الاستراتيجية الجديدة بين إيران وروسيا "ترمي حصراً إلى إضفاء الطابع الرسمي" على علاقاتها بأحد أهمّ اللاعبين الإقليميين في الشرق الأوسط، و"وضع إطار ناظم لتلك العلاقات، في ضوء الوضع القائم" هناك حالياً، مشيراً إلى أنّه "يتعيّن على روسيا أن تكون حريصة على الإبقاء على صداقاتها" مع مختلف هؤلاء اللاعبين، بخاصة المتصارعين مع بعضهم ، وخصوصاً أنّها باتت تعتمد عسكرياً بصورة متزايدة على إيران، وتحديداً لجهة استيرادها بعض أنواع الأسلحة (كالمُسيّرات)، في موازاة اعتمادها اقتصادياً بالقدر نفسه على الإمارات، وتحديداً لجهة مساعدتها في التحايل على بعض العقوبات الغربية. ويقرّ بعض المحلّلين، ومن جملتهم الباحث في "المركز الروسي للشؤون الدولية"، نيكيتا سماجين، بصعوبة مهمّة محاولة موسكو "الموازنة" بين علاقاتها مع إيران، ودول الخليج، في ضوء تأييد موسكو للمطالبات الإماراتية حول الجزر المتنازع عليها بين أبو ظبي وطهران، من جهة، وحاجتها إلى التنسيق مع الرياض بخصوص أسعار النفط، من جهة ثانية. ويتابع سماجين أنه "يتوجّب على روسيا أن تأخذ علاقتها مع السعودية في الاعتبار، حيال أيّ محادثات تجريها مع إيران"، مستبعداً أن تُقدم على توريد أنواع معينة من الطائرات المقاتلة المتقدّمة التي سبق أن طلبتها إيران، كطائرات "Su-35"، بسبب معارضة الرياض لهذه الخطوة. ويضيف سماجين أنّ إبرام المعاهدة الاستراتيجية بين الروس والإيرانيين "يثبت أن طهران تسعى إلى الحصول على مظهر من مظاهر الدعم" من إحدى القوى الكبرى، معتبراً أنّ "الإيرانيين خائفون من إدارة ترامب، ومن إسرائيل على حدّ سواء، ومتوجّسون من تبعات انهيار نظام الرئيس السوري بشار الأسد، وتضعضع حزب الله".

في المقابل، تشدّد الباحثة المختصّة في شؤون روسيا وإيران وسياسة الانتشار النووي في "معهد كارنيغي" للبحوث، نيكول غرايفسكي، على أنّ "روسيا كانت حذرة في السابق في شأن توصيفها للعلاقات مع إيران على أنها استراتيجية، مخافة إثارة استياء اللاعبين الإقليميين الرئيسيين، مثل السعودية وإسرائيل والإمارات وحتى الغرب"، ملمّحةً إلى أن حسم موسكو أمرها بعقد اتفاقية شراكة استراتيجية جديدة صريحة مع طهران، يرجع إلى حقيقة مفادها أنّ "روسيا باتت تعتمد الآن على إيران في حربها" ضدّ أوكرانيا. وتلفت إلى أنّ ما تضمّنته المعاهدة الاستراتيجية الروسية - الإيرانية أخيراً من بنود حول التعاون الاستخباري، لم يكن موجوداً في اتفاقيات مماثلة سابقاً يجعلها "على قدْر من الأهمية في العديد من الجوانب".

 

بين التحضّر لمفاوضة ترامب والاستعداد للحرب: بِمَ تفكّر إيران؟
وعن خيارات إيران في المرحلة المقبلة، تذهب مجلة "فورين بوليسي" إلى القول إنّ "الضربات التي تلقّاها الحلفاء الإقليميون لطهران، ربّما تكون أحد الأسباب التي دفعت هذه الأخيرة إلى التقارب مع موسكو". وعن حجم التقاطعات بين روسيا وإيران، توضح صحيفة "فايننشال تايمز" أنّ التعاون العسكري المتصاعد بين الجانبين "تتمّ مراقبته عن كثب" من قِبَل العواصم الغربية، مبيّنة أنّ إبرام الاتفاقية الاستراتيجية الجديدة بين موسكو وطهران، يحمل دلالات على "العلاقات الدافئة" بين قادة البلدين، ويُظهر "مدى تحوُّل العلاقات الخارجية الروسية بعد غزو أوكرانيا، وتحديداً في الشرق الأوسط".

وفي ضوء ترقّب كلا البلدين توجّهات الإدارة الأميركية المقبلة لسياستها حيال حرب أوكرانيا، والبرنامج النووي لإيران، التي يظلّلها نقاش بين مَن يرجّح حصول تسوية مرتقبة بين موسكو وواشنطن على حساب علاقة الأولى بطهران، ومن يرجّح انفتاحاً غربياً على إيران كجزء من توجّه أميركي - أوروبي لعزل موسكو، بما يثيره الأمر من توجّس متبادل بين الحليفين، يعتبر الباحث في "مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية" في واشنطن، جون ألترمان، أنّ "روسيا باتت تصوغ نهجها في الشرق الأوسط، وعلى نحو متزايد، من خلال منظور انخراطها في مواجهة مع الغرب". الاستنتاج نفسه تؤيّده هانا نوت، الباحثة في "مركز جيمس مارتن لدراسات منع الانتشار النووي" في برلين، إذ تشير إلى أنّ "منطق المواجهة الجيوسياسية مع الغرب استمرّ في دفع البلدين قدماً إلى مواصلة تعاونهما". وتشرح نوت بعداً شرق أوسطي لافتاً في السياسة الخارجية الروسية، إذ تقول إنّه "كلّما رفعت إسرائيل من حدّة عدائها لإيران، على النحو الذي يقوّض توازن القوى في المنطقة، ارتفعت شهية الجانب الروسي لمحاولة مواجهة هذا الاتجاه". وبحسب نوت، فإن الإسرائيليين، وفق المنظور الروسي، هم "حلفاء للأميركيين" في المقام الأول، في حين أن مراعاة المصالح في الخليج، تتطلّب من موسكو "عدم الانسياق خلف إيران بشكل تام".
 

المصدر: خضر حروبي - الاخبار