«لو لم يأتِ والدي قدّس الله روحه من بلاد العرب إلى ديار العجم، ولم يختلط بالملوك، لكنت من أتقى النّاس وأعبدهم وأزهدهم، لكنّه طاب ثراه أخرجني من تلك البلاد وأقام في هذه الديار»
الشيخ البهائي، الكشكول

 

«من تفقّه ولم يتصوّف فقد تفَيقه»
الشيخ البهائي، مقدّمة رباعيّات «نان وبَنير»

تبدأ سيرة دلال عبّاس في النبطيّة جنوب لبنان عام 1976. هي تزوجت حديثاً ولديها طفلة لم تبلغ السنتين، نحن في السنة الثانية من الحرب الأهلية، والحي الذي يسكنون فيه يتعرّض يومياً للقصف، سواء من إسرائيل أو من المنظّمات المحلية المتقاتلة. زوجها مهندسٌ يعمل في شركةٍ ألمانيّة، تعرض الشركة عليه الانتقال إلى بلدٍ آخر لاستكمال عمله وتخيّره بين ثلاث دول، من بينها إيران. تصرّ الزوجة على أن الخيار لا بدّ أن يكون إيران. هي درست بعض الفارسية في الجامعة، وكانت تحلم باستكمال دراساتها العليا، والحرب اللبنانية تمنع الانتقال داخل البلد ومتابعة الدراسة في بيروت. وجدت عبّاس في إيران فرصة: يُبعدون عائلتهم عن الحرب، تتقن الفارسية أخيراً، وتبحث عن برنامج للدكتوراه في مجالها.

لم تكن الدكتورة دلال عبّاس تعرف يومها أنّ سلسلةً من المصادفات سوف تقودها إلى إيران قبيل الثورة، وإلى اكتشاف البهائي والعوالم التي تأتي معه، وأنّه سيصبح شيخها وملهمها وموضوع بحثها. ورسالتها أصبحت مرجعاً نادراً بالعربيّة لمن يحتاج تقديماً شاملاً - منهجياً وموثّقاً - لفكر بهاء الدين العاملي وسياقه وأعماله، وأنا قد تعرّفت إلى الشيخ البهائي عبر دلال عبّاس. عنوان رسالتها المنشورة عن الشيخ البهائي «بهاء الدين العاملي: أديباً وفقيهاً وعالماً» (دار المؤرخ العربي، 2010)؛ أمّا السيرة الذاتية عن حياتها في إيران، وسنوات ما قبل الثورة، وطريقها إلى روضة الشيخ البهائي، فهي نُشرت في كتابٍ سمّته «أيام مئات في إيران قبل الثورة» (دار الأمير، 2022). وقد قرأت العملين سويّةً وسأكتب من وحيهما معاً (أهدتني الدكتورة الكتاب الثاني وأخبرتها بأنّني سأشتري الأوّل، الذي لم يكن في حوزتها، ولكنكم تعرفون موقفي من شراء الكتب ودفع ثمنها - هو لحسن الحظّ موجودٌ على الإنترنت).

عودةٌ إلى قصّتنا: تقرّر، إذاً، أن تنتقل العائلة إلى إيران، ولكن ظروف الحرب كانت تُبقي المطار مقفلاً، والطريق إلى بيروت في ذاته صعبٌ وخطر. قرّر الزوجان بعد تفكير أن يجرّبا الوصول إلى إيران قيادة عبر البرّ، وبسيارتهما الخاصّة. هنا يجب أن أتدخّل وأقول إنّ عليك أن تعرف شيئاً عن هذه الشخصيات، وبخاصّة المرحوم عبد الأمير صبّاح، لكي تفهم كيف استنسب زوجان في تلك الأيام أن السبيل الأسلم للوصول إلى طهران من لبنان يكون بأن يقطعا، بالسيارة، صحارى سوريا والعراق وجبال زاغروس، ومعهما طفلةٌ صغيرة. والحقيقة هي أنّني أعرف هذه الشخصيّات: رفيف صبّاح، الطفلة في السيرة هنا، كانت صديقة أختي الكبرى في المدرسة، وكنت أراها في بيتنا باستمرار وألتقي أبويها. ولم يكن في وسعي، وأنا أقرأ الكتاب، أن أتخيّل رفيف طفلةً في تلك الرحلة الطويلة مع أهلها، والعرب يسرقونهم في صحراء سوريا، والسيارة تتعطل في بغداد، والأمن الإيراني يوقفهم على الحدود (رفيف اليوم مترجمة لديها عدد من الكتب).

بين ارتحال الشيخ حسين بن عبد الصّمد، والد الشيخ البهائي، إلى إيران الصفويّة مع عائلته، وبين رحلة آل صبّاح أربعة قرونٍ تقريباً؛ والخيط المشترك بينهما هو أنّ أهل هذا الجبل النائي الفقير في جنوب لبنان دائماً ما كانت حياتهم وترحالهم، وأزماتهم وإنجازاتهم، كلّها مجبولةٌ بالسياسة، وبقضايا عاصفة تأتي من هنا وهناك تؤثّر فيهم ولا يقدرون على التأثير فيها. في هذا السياق، كان على هؤلاء النّاس أن يوسّعوا، على الدّوام، تفكيرهم وإدراكهم لما يتجاوز مكانهم المحلّي وقضاياه «الصغيرة»، ومن هنا تبدأ قصّة الشيخ بهاء الدين بن حسين بن عبد الصّمد العاملي.

 

في بلاد العجم
على عكس العرب، فإنّ أكثر الإيرانيين لن يحتاجوا إلى أن تعرّفهم بالشيخ البهائي، فهو بمنزلة رمزٍ وطنيٍّ هناك، وقد أصبح جزءاً تكوينياً من أسطورة مدينة أصفهان وروايتها عن نفسها، وعامّة النّاس تنسب إليه مختلف الاختراعات والاكتشافات، إضافة إلى الخوارق والعجائب والكرامات. التشبيه الأقرب لشخصية الشيخ البهائي قد يكون مثال «رجل النهضة» أو ليوناردو دافنشي: هو ليس موسوعياً متعدّد العلوم فقط (polymath)، بل هو كان ينبغ ويبرز ويؤسّس علامة تاريخية في كلّ هذه المجالات. من الفقه إلى الشعر والأدب، إلى الحساب والهندسة والمعمار. وهو فوق ذلك يتولى مناصب إدارية ويرافق الشاه ويدرّس الطلّاب ويشرف على نهضة أصفهان وتخطيطها وبناء أهمّ معالمها. لا يتّسع المجال هنا لوصف إسهامات الشيخ البهائي وسردها، ولكن يكفي أن نقول إنّ هناك سمةً خاصّة طبعت - تقريباً - كلّ مجالٍ لمسه الشيخ، عبقريّة أو «بركة» إبداعية ما لا تفارق أعماله - سمتها التجديد. يكتب الشعر بالفارسية بمستوى يفوق أقرانه في إيران، وبالعربيّة شعرٌ أرقى من أيّ من مجايليه في المشرق العثماني. يستخدم أمثلة حسابية لشرح مسائل فقهية، أو يقدّم معادلات رياضية معقّدة لتوزيع الإرث. يستخدم عقلاً رياضياً لكي «يُمنطق» النحو ويسهّل تعلّمه على المبتدئين. ينظم شعراً بالعربية على منهج الرباعيات، ويستدخل بحوراً عربية إلى الشعر الفارسي. وهو كثيراً ما كان ينشر في المجال ذاته نوعين من الكتب: كتابٌ فذّ في الفقه أو الحساب أو الفلك، يقدّم فيه جديداً وإسهاماً علمياً كبيراً؛ ثمّ ينشر كتاباً في المادّة ذاتها هدفه تبسيطها وتقديمها للمبتدئين والجمهور. وهذا من أسباب شعبيته خارج مجتمع العلماء وتعلّق الكثير من الناس به، فهم قرؤوا كتبه وتعلّموا منها واستدلّوا بها (تنقل دلال عبّاس أنّ كتاب البهائي في تعليم الحساب، مثلاً، ظلّ يستخدم في حوزة النجف إلى أواسط القرن العشرين). على سبيل المثال، فإنّ كتابه الفقهي «الشعبوي»، «جامع عبّاسي»، انتشر بشكلٍ هائل في عالم اللغة الفارسية، فهو أصبح لقرونٍ دليلاً للعامّة في مختلف شؤونهم الدينية، تجده في كلّ بيت؛ وهو منظّمٌ بطريقة منطقية سهلة ومكتوبٌ بأسلوبٍ بسيط «عملي»، ما يسمح لأيّ متعلّم بالاستفادة منه.

ولكنّ الإسهام الأساسي للشيخ البهائي يظلّ في المجال الفقهي. فلنضع أنفسنا قليلاً في إيران في أواسط القرن السادس عشر (أي زمن نشاط والد البهائي، الشيخ حسين). كان التشيّع في إيران لا يزال حديثاً ومفروضاً، والعلاقة بين الدولة والمؤسسة الدينية غير محسومة بعد، والتشيّع كثيرٌ منه غلوّ تركمان، مثل تشيّع القزلباش وفرق صوفيّة أخرى، يتعارض جذرياً مع الفقه الإمامي. أمّا ما بعد البهائي فنحن نجد صورةً مختلفة تماماً، فالبهائي قد أشرف على مرحلة جرت فيها «مأسسة» التشيّع الفقهي في إيران، وتحديد اتجاهه الأصولي العقلي، وتكريسه شكلاً وحيداً للدين الرسمي، وانطباعه بالسّمة الصوفيّة، وهي صفاتٌ لا تزال مستقرّةً إلى اليوم. والبهائي لم ينجز هذه الأمور عبر تأليف الكتب، بل أساساً لأنه لعب دوراً سياسياً وإدارياً بارزاً. شيخ الإسلام في العاصمة أصفهان. وقد نال بالإجماع اعتراف عصره بأنه أبرز علمائه، وكانت له حظوةٌ هائلة عند الشاه. وهذا الجانب في حياته، السياسي والبلاطي، هو إلى اليوم من أكثر القضايا جدلية حول حياة الشيخ وسيرته: هل كان صوفيّاً زاهداً أم نديماً للملوك؟ هو كان يرافق الشاه حتى في رحلات صيده، ولكنّ الأحياء الشعبية في أصفهان كانت تعرفه شيخاً عطوفاً يجول على الفقراء ويسأل عن أحوالهم. هل سعى إلى السلطة أم هي سعت إليه؟ هو تقلّد كلّ هذه المناصب، ولكنك تجده، في الوقت ذاته، يتحسّر على مجيئه إيران ومخالطته الملوك (يُنقل عن البهائي: «آباؤنا وأجدادنا من جبل عاملة، كانوا مشتغلين بالعلم والعبادة والزهد، وهم أصحاب مقاماتٍ وكرامات… ولمّا شربنا ماء العجم سُلبنا جميع ذلك»).

بدايةً، لا يجب أن نتوهّم أن إيران والبلاط الصفوي في أواخر القرن السادس عشر كانت مكاناً مريحاً لفقيهٍ عامليّ. فلنأخذ أواخر عهد الشاه طهماسب مثالاً: التنازع دائمٌ بين الشاه والقزلباش والعلماء، مؤامرات ودهاليزٌ داخل البلاط. الانقسامات موجودةٌ حتى ضمن المؤسسة الدينية وبين الشيوخ: توجد ثنائية بين العلماء العامليين، الذين كانوا يتولّون المناصب العلمية العليا، والعلماء ذوي الأصل الفارسية، وغالبيتهم من عائلات إيرانية أرستقراطية كانت سنيّة إلى أمدٍ قريب. بل هناك نزاعٌ ضمن العامليّين أنفسهم، كما يروي ديفن ستيوارت في دراساته عن البهائي ووالده، إذ كان هناك انقسامٌ بين الخطّ الجباعي (أي تلامذة الشهيد الثاني وعلى رأسهم الشيخ حسين، والد الشيخ البهائي) وبين الخطّ الكركي (وعلى رأسه الشيخ حسين الكركي، حفيد المحقق الثاني، وعمّه الشيخ عبد العالي). وهذه كانت عداوةً شديدة بين الخطّين واختلافاً عميقاً، في الفقه وفي السياسة والأحكام، وحتى في تحديد اتجاه القبلة. وقد وصل الأمر أن نجح الشيخ حسين الكركي، بدعم القزلباش، بإقناع الشاه بإقالة والد الشيخ البهائي من منصبه شيخاً للإسلام في قزوين - التي كانت العاصمة - وتعيين سميّه الكركي مكانه. وهذه كانت، بلا شكّ، إهانةً قاسيةً للشيخ، إذ كان من النادر - بحسب ستيوارت - أن يخلع الشاه شيخاً للإسلام وينقله إلى منصبٍ أدنى (والسبب الأساسي يومها كان أنّ الشاه أراد استرضاء القزلباش، وهم يفضلون الكركيين وآرائهم المتشددة ضد السنّة والعثمانيين، مقابل الاتجاه المعتدل للشيخ حسين وخطّه).

فوق ذلك، يجب أن نتذكّر أنّ البلاط الصفوي يومها، والشاه ومحيطه، كانوا لا يزالون أقرب بكثيرٍ إلى التقليد التركي-المغولي منه إلى أيّ مفهومٍ إسلامي. باستثناء الشاه طهماسب، الملك الصفوي الوحيد الذي كان متديّناً بحقّ، لم يكن أيّ من ملوك الصفويين يؤدّي فروض الدين، وكانوا كلّهم يشربون الخمر ولديهم ميلٌ - جينيّ على ما يبدو - إلى الإفراط (طلب الشاه عباس من طبيبه الخاص أن يُعدّ كتاباً عن فوائد الخمر، والشاه إسماعيل الثاني قتلته جرعة زائدة من الأفيون). وتشرح عبّاس في رسالتها أنّ علاقة ملوك الصفويين الأوائل بالتشيّع وإحياءهم لمناسبات مذهبية كان دافعها تعصّباً بحتاً وكراهيّة للسنّة، على الطريقة العشائرية، أكثر منه علاقةً روحيّة - وأتباع الشاه من حوله ينسبون إليه بركاتٍ وخوارق من النوع الذي يثير هلع أيّ شيخٍ إماميٍّ موحّد.

تخيّل الفارق بين هذا السياق «الإمبراطوري» المعقّد وبين الريف الهامشي الفقير الذي جاء منه هؤلاء العلماء. هذا حتى لا نذكر عوامل الخطر المباشر (في عهد إسماعيل الثاني، مثلاً، حصل توتّر كبير بينه وبين العلماء، وصل لدرجة أن الشيخ حسين الكركي كان ينتظر القتل اغتيالاً، وعمّه فرّ إلى همدان). لا غرابة هنا أن يقرّر عامليٌّ مثل الشيخ حسين بن عبد الصمد، بعد تجربة سنواتٍ في إيران، أن يعتزل ويرحل إلى الحجاز، بغية الموت بسلام في جوار الحرم، وبعده إلى البحرين. ولعلّ السبب ذاته كان يدفع عدداً من العقول العاملية اللامعة - تشرح عبّاس - إلى البقاء في ريفهم الفقير (حيث تجد الفقيه المعروف يعمل، بعد الظهر، فلاحاً في أرضه) على أن يدخلوا عالم الصفويين وبلاطهم، أو يختاروا - إن اضطرّوا إلى الهرب من جبل عامل - الإقامة في كربلاء أو الحجاز.

 

الفردوس المفقود
لا بدّ أن تجربة إيران وسنواتها كانت قاسية على والد الشيخ البهائي، إذ تجده يوصي ابنه في أواخر حياته بما معناه: «إن بغيت الحياة الدنيا فيمّم شطر الهند، وإن رغبت في الآخرة فعليك بالبحرين، وإن أردت لا هذه ولا تلك فلتظلّ في إيران» (القول مترجم وليس الأصل). ولكن الشيخ حسين، على عكس ابنه بهاء الدين، كان قد تربّى ونشأ خارج إيران، وشخصيته «العامليّة» قد تكوّنت، ومن الصعب عليه أن يتآلف مع هذا السياق الصفوي الجديد (وثقافته وبلاطه ومؤامراته) وأن يشعر فيه بالغربة والضياع. هذا يشبه تجربة دلال عبّاس في طهران التي لم تكن تعرف عنها شيئاً حتى وصلتها مع زوجها وابنتها عام 1976، والبلد يحكمه «شاه» جديد. صُدمت من رؤية الإسرائيليين حولها في الحدائق، أو السفير العماني وهو يدعو نظيره الصهيوني حين يُقيم حفلاً، والسفراء العرب «المعتدلون» يتحلّقون حوله حين يدخل لينالوا شرف السلام عليه. اكتشاف الكاتبة للفارق بين طهران «الأوروبية» الجميلة التي تقطنها، وطهران الكبرى الفقيرة، حيث تتحول الجداول والقنوات الجميلة التي تروي الأشجار في شمالي المدينة إلى سواقٍ آسنة في الجنوب، يغسل الناس فيها ثيابهم وأوانيهم. والعنصرية تجاه العرب والدونيّة تجاه الأوروبي، إذ استنتجت عبّاس بسرعة أن الإيرانيين من الطبقة العليا يقلّدون الغربيين ويتزلّفون لهم، والعرب هناك يتصرفون بالشكل ذاته تجاه الإيرانيين (اعترفت زوجة القنصل العماني للكاتبة بأنهم يلبسون العباءة التقليدية في بلادهم، ولكنّ الأزواج أوصوهنّ باعتماد اللباس الأوروبي في طهران، حتى لا يراهم الإيرانيون «متخلّفين»).

الشيخ البهائي، في المقابل، لم يعرف لبنان حقّاً وهو فعلياً مهاجرٌ من «الجيل الثاني»، ابنٌ لتلك البيئة الإيرانيّة. أصل عائلة البهائي من جبل عامل، ولكنه وُلد في بعلبك (حيث كان والده يتولّى وقفية تدريس)، وقد هاجر إلى إيران صغيراً، ولم يكوّن ذكريات وصوراً عن موطنه الأصلي. تجد الحنين إلى المدن في شعر البهائي موجّهاً لهرات أو أصفهان، وليس لجبل عامل، بل إنّه لم يعرّج لزيارته حتى حين مرّ بجواره وهو يسوح في القدس ودمشق وحلب. يلعب لبنان في شخصية البهائي دوراً مختلفاً عنه في ذاكرة المهاجرين الأوائل، باعتباره «الأصل المفقود» - زمن البساطة و«البراءة» قبل أن تُفسدك الحياة وأدرانها. ومن يعرف فكر الشيخ البهائي وازدواج المعاني في الكثير ممّا يقول، يعرف أنه حين يتكلّم عن «جبل عامل» و«إيران» فهو لا يقصدهما باعتبارهما أمكنة جغرافية، بل كرموزٍ وتوريات (إن كان اللبناني المغترب اليوم يبدأ بنسج الرومانسيات عن البلد بعد أشهرٍ قليلة من هروبه منه، فكيف بمن لم يعرفه أصلاً؟)

ما أودّ قوله هنا هو إنّه قد لا يكون هناك تعارض بين سيرة الشيخ البهائي وبين صوفيّته وزهده، بل هي ربما علاقة جدليّةٌ ولّدت التوليفة الفريدة في شخصيته. تذكّرت هنا مقولةً لحسن الخلف تقول إنّ التصوّف له أهميّة «أخلاقيّة» كبرى، خارج نطاق الفلسفة والاعتقاد، وبخاصّة حين يتمدّن الناس وينتقلون إلى الحواضر. الفكرة هي أنّك يمكن أن تكون مسلماً تمارس الفرائض والواجبات الدينية، ولكن هذا في ذاته لن يهذّب نفسك، أو يعلّمك التواضع والزّهد، أو يزجرك عن القسوة والطمع، فدينك كلّه برّانيّات. لنفترض هنا مثالاً أنّك إنسانٌ ريفيّ أو عشائري انتقلت إلى مدينةٍ حديثة، هنا أنت قد خرجت من «مجتمعك العضويّ»، بأخلاقياته التقليدية وعاداته المتوارثة التي تنظّم سلوكك وحياة النّاس من حولك. أصبحت الآن في مكانٍ هائجٍ تختلط فيه أصناف الخلق، وتسود الماديّة. ليس فيه «عيبٌ» و«ناموس» ولا يعرفك فيه أحد. فإلى أيّ نوعٍ من النّاس سوف تستحيل من دون أن تكون في داخلك منظومة أخلاقية بديلة وقويّة، تعلّمك كيف تظلّ إنساناً وأنت في محيطٍ فاسد؟ هنا دور التصوّف في أن يصنع إنساناً لا تكون المادّة والظّاهر عنده كلّ شيء، وسلامه داخليُّ أوّلاً، ومن عرف المتصوّفة عن قرب أو عاش بين شعوبٍ طبع التصوّف ثقافتها يفهم ما أقصد.

التصوّف قد لا يمنع الشيخ من الدخول إلى قصر الأمير، ولكنّه قد يمنع القصر من أن يغيّره ويمسخه. التصوّف هنا ليس بديلاً من المدنيّة بل ترياقاً لها، طالما أنّ «الفردوس الأصلي» قد فقدناه ونحن لن نرجع إليه. هكذا نجد الشيخ البهائي يكتب رسائل الشاه في النهار، وينظم في الليل شعراً عن الزهد، يسمّي كتابه باسم الشاه ويسكن في الدار التي أهداه إياها (وهو فعلياً قصرٌ لأميرة صفوية في أصفهان، حوّله الشيخ إلى مدرسةٍ لإيواء الطلبة وتعليمهم) ويحذّر الناس في «نان وحلوى» من مخالطة الملوك والاغترار بالدنيا، ويلوم نفسه العاصية.

مسألة التصوّف عند البهائي هي، بالطبع، اعتقادية وفلسفيّة أساساً (تشرح عبّاس أن البهائي يميّز كالمتصوفة بين المعرفة التي نحصّلها عبر التحليل والملاحظة والتأويل، وتلك التي تصلنا عبر العرفان والإشراق، وأن الثانية وحدها هي ما يوصلك إلى الحقيقة العليا). ولكن هذه الأمور ليست منفصلة عن بعضها بالكامل، إذ من الممكن أن نقول أيضاً إنّ عبقرية الشيخ البهائي وتأثيره الهائل ما هما إلا نتيجة تلاقٍ لكمٍّ هائلٍ من الظروف، وإنه - بالمعنى التاريخي - قد جاء في الوقت والمكان «المثاليين». توفّر للبهائي، مثلاً، أن يعلّمه الفقه والده، تلميذ الشهيد الثاني، وأن يأخذ الطب والحساب والعلوم - في قزوين - على يد أهمّ علماء إيران. هو أيضاً قد برز دوره والبلاد تدخل مرحلة استقرارٍ وازدهار، بعد أن كانت مفكّكة مأزومة، والعلاقة بين الشاه والمؤسسة الدينية قد ثبتت، وأصبحت مكانة العلماء واضحة وراسخة. رحلة دلال عبّاس لاستكشاف الشيخ البهائي، تقول عن نفسها، كانت أيضاً سلسلةً غريبةً من المصادفات والتوفيقات، وتضيف أنّ هذه قد لا تكون مصادفات محضة. وأنا حقّاً أحبّ هؤلاء النّاس، وأحبّ أن أفكّر مثلهم، وأنّ ما يحصل معك خلفه سببٌ ورسالةٌ وخطّة إلهية. المسألة الوحيدة هنا هي أنّ هذا الاعتقاد عندي لا يعني بالضرورة زيادةً في مستوى السّلام والطمأنينة (قبل أشهر قالت لي زوجتي ما معناه إن لا داعي للقلق وإنه لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، فشرحت لها أن ما أخشاه تحديداً هو ما كتبه الله لنا).

 

خاتمة: خريطة الرّوح
الفكرة الأساسية هي أنّ قصّة هؤلاء العامليين هي قصّة جبل عامل «ضمن المنطقة»، ولا تاريخ لجبل عامل منفصلاً. إن أردت أن تعرف سبب نبوغ عدد لافتٍ من العامليين في تلك المرحلة، فإنّ عليك أن تنطلق من تكوينهم في ذلك الجيل، وتنوّعه ورحابته واتساعه: يدرسون الفقه الشيعي في لبنان، ثم يتوجهون إلى مصر لدراسة المذاهب السنية والتصوّف، ثم دمشق وحلب، وفي بعض الحالات إسطنبول، يدرسون خلال سياحتهم مع أبرز الشيوخ، ويتعرّفون إلى الجديد من الأفكار. أو فلنأخذ مثالاً سيرة الأستاذ الأوّل لخطّ الشيخ البهائي، العلّامة الحلّي، الذي درس الفقه الإمامي في الحلّة، والاعتزال الشيعي في البصرة، والعلوم في مرصد الطوسي، وفي بغداد تعلّم المذهب الحنفي والتصوّف وابن عربي. عقلٌ كعقل الحلّي لا يمكن أن يخرج إلا من مثل هذا السياق ومناهله المتعددة. والبهائي، ابن الثقافة العربية والفارسية، قد جاب الطريق إياه «سياحةً تعليمية» في شبابه (من المدن المقدسة إلى الحجاز، فمصر، فالقدس، ثمّ دمشق وحلب. وكان لرحلته هذه بالغ الأثر في تكوينه، حتى إن مبالغاتٍ كثيرة سارت عن عدد السنوات التي قضاها البهائي سائحاً). كان لديك ما يشبه «شبكة» علميّة تربط بين حواضر المنطقة، تخترق المذاهب، وتنتج مبدعين انقطع أشباههم منذ قرون - إذ انفصلت الأقاليم، وبهتت الحواضر، وأصبح كلٌّ معزولاً في مكانه الصغير.

المصدر: عامر محسن - الاخبار